تعودت المجتمعات، بما فيها العربية والفلسطينية، تسمية سنين معينة بحسب أحداث مهمة وفارقة حدثت فيها، مثل سنة “الثلجة” وسنة “الجراد” وسنة “الهزة” وغيرها من الأسماء، مما أدى إلى بقاء هذه الأحداث حية عبر الذاكرة الجماعية وانتقالها بين الأجيال. إذا نظرنا للخلف، إلى الماضي القريب وحاولنا تسمية السنتين الأخيرتين فإن سنة 2020 ستحصل بلا جدل على لقب “سنة الكورونا”، أما سنة 2021 فهي برأيي “سنة المناخ”. على الرغم من امتداد أزمة الكورونا واستمرار تبعياتها لسنة 2021 فقد نجحت الأخيرة، وإن بصعوبة وبعد جهود مكثفة، أن تمنح قضايا البيئة والمناخ مساحة ومنصة غير مسبوقة على مر السنين السابقة بالرغم من أن المعطيات، والأبحاث، والتحذيرات ونداءات المنظمات البيئية موجودة من سنين. سنة 2021 كانت سنة فارقة ومفصلية من حيث الوعي الجماهيري للقضايا البيئية، التقارير والمساحة التي منحتها وسائل الإعلام لهذه القضايا، ولكن للأسف أيضا من حيث كثرة وكثافة الكوارث البيئية التي شهدها العالم في غضون فترة قصيرة وبهذا عرضت لنا مقدمة ترويجية أو ما يسمى “برومو” لما ينتظرنا مستقبلا.
من المفارقة أن أكثر الاخبار التي حظيت بالتغطية الإعلامية سنة 2021 كانت حول التقرير الواسع الذي نشر أكثر صورة قاتمة حول مستقبل الكرة الأرضية، والذي أعده طاقم من خبراء المناخ في الأمم المتحدة ويتلخص بأهم جملة، والتي تنص على أنه في حال لم نقم بتغييرات جذرية وفورية في غضون السنوات القليلة القريبة في أنماط حياتنا، كأفراد ومجموعات، فإننا سنصل بسرعة أكبر إلى نقطة “اللا عودة” حيث لا يمكن إعادة العجلة إلى الخلف وتدارك الدمار المنتظر للكرة الأرضية وإنقاذ حياتنا عليها كما نعرفها اليوم.
هذه الخصوصية لم تغب عن مجتمعنا أيضا، إذ شهدنا ارتفاعا ملحوظا في التغطية الإعلامية لهذه القضايا، ليس فقط كميًا وإنما أيضًا من الناحية المهنية والتعمق في المواضيع من قبل وسائل الإعلام العربية على الرغم من أن هذه التغطية لا تزال في بدايتها وبعيدة كل البعد عن أن تكون كافية أو أن توفي الموضوع ما يستحقه. في المقابل، لاحظنا تحسنا ملموسا بما يتعلق بدرجات الوعي عند الجمهور ويشمل هذا استعداده لاتخاذ خطوات فعلية على المستوى الشخصي والجماهيري من أجل التغيير والتأثير. شهدنا هذا التحسن من خلال التوجهات التي تصلنا من السكان العرب الذين يبحثون عن أطر للتطوع والحراك البيئي أو يشتكون من مكاره بيئية وعلى الاستعداد لمواجهة ومقاضاة الجهة الملوثة حتى وان كانت هي السلطة المحلية، وكذلك بحسب استطلاعات للرأي التي تم إجراؤها، حيث أظهرت نتائج استطلاع للرأي نشر في يناير 2021 من قبل المعهد الإسرائيلي للديمقراطية فحص مدى وعي المجتمع الإسرائيلي بشكل عام حول قضية أزمة المناخ، أن 72% من المجتمع العربي منزعجين من الارتفاع في تلوّث الهواء، وهي نسبة أعلى من تلك في المجتمع اليهودي العلماني (64%) أو المجتمع اليهودي المتدين (الحريديم) (38%). أما بما يتعلق بالاستعداد للمشاركة الشخصية تبين أن استعداد الجمهور العربي مثلا لفصل النفايات مرتفع جدا (67%) حتى لو يتم وضع حاويات الفصل بمحاذاة البيوت (مقارنة بالجمهور اليهودي العلماني 53% واليهودي المتدين 29%)، وأن استعداده لتقليص السفر بالسيارات الخاصة بغرض تقليل تلوث الهواء أعلى بقليل من النسبة عند الجمهور اليهودي (55% مقابل 45%) حتى لو كان الأمر منوطا بإطالة مدة السفر وزيادة المجهود.
هذه التغييرات لم تأت صدفة، بل هي نتيجة فهم وتذويت -حتى لو بشكل أولي-، للآثار الجسيمة التي تحملها الأزمة البيئية والمناخية على المدى القصير، المتوسط والبعيد، بما فيها التأثيرات الصحية، الاجتماعية، الغذائية وحتى تهديد الحياة جراء التلوث وظواهر المناخ المتطرفة فإن استمرار حياتنا كما نعهدها اليوم والرفاهية التي ننعم بها، يكاد يكون مستحيلا. وهذا أيضا نتيجة لليأس والقلق من الواقع البيئي المتدهور باستمرار في البلدات العربية حيث تمتلئ بالمكاره البيئية بكل أنواعها من جهة، وتفتقر إلى توفر معظم المتطلبات الأساسية والبنى التحتية التي يجب أن تتوفر لضمان سلامة وجودة حياة السكان.
يأتي هذا التغيير أيضا في ظل الواقع المركب الذي يعيشه المجتمع العربي والتحديات الأخرى مثل القوانين العنصرية، والعنف والجريمة، وأزمة البناء، وانعدام الثقة بالسلطات وغيرها، وربما رغما عن هذا الواقع. من يتابع هذه السيرورة يكتشف بوادر تذويت أولي لمفهوم العدالة بأن الصراع البيئي والمناخي هو جزء لا يتجزأ من الصراع الاجتماعي والسياسي وأن المطالبة ببيئة سليمة هو حق لنا وواجبنا نحو أنفسنا ونحو الأجيال القادمة، وهي جزء من النشاط للتغيير المجتمعي.
ولكن هذه البوادر الإيجابية عند الأفراد تصطدم في أكثر الأحيان عند حواجز تنظيمية تمنع من تطورها أو تنفيذها وعلى رأس هذه الحواجز، السلطات المحلية العربية إذ إن غالبية القضايا المرتبطة بحياتنا اليومية بما فيها البيئية والجهوزية المناخية تدار من قبل هذه السلطات، في واقع تعاني فيه هذه السلطات من نقص حاد في القوى العاملة، والإدارات المهنية السليمة والتخطيط الصحيح والملائم للتحديات الحالية والمقبلة، للتغييرات التي تحصل في العالم بأجمعه ولتطلعات الجمهور واحتياجاته. هذا، إلى جانب العلاقات المركبة والسياسية مع مؤسسات الدولة التي تضع معظم المسؤوليات التنفيذية على عاتق الحكم المحلي دون علاقة بقدرة هذه السلطة أو تلك على ذلك وتكتفي عادة برصد الميزانيات لمشاريع عينية وآنية لا تحمل أي ثمار تبقى على المدى البعيد والأهم من ذلك أنها لا تحدث تغييرا في البنية الإدارية أو نهج العمل لدى معظم السلطات فتبقى الأخيرة متأخرة عن الركب نسبة إلى ما يحدث في بلدات أخرى ويتوسع الانقطاع وعدم التواصل بينها وبين سكانها.
هذا لا يعني بأن الأمل مفقود ولا ينبغي أن يثني هذا الواقع المركب من عزيمتنا، بل على العكس. في ظل التغيرات السريعة التي تحدث في العالم أمامنا خياران: إما أن نستمر في نهجنا الحالي أو نرى في هذه المرحلة فرصة للتصحيح، نأخذ زمام الأمور ونتبنى نهجا حديثا يضمن استدامة البلدات العربية والمجتمع العربي. على هذا النهج أن يكون تكامليا ومتعدد المستويات دون التعويل على مؤسسات الدولة بشكل كامل، بل اعتبارها جزءا واحدا من هذه المستويات إذ إن دور الحكومة مهم لكنه غير عادل وغير كافٍ. على هذا النهج أن يحوي أيضا تغييرات جذرية وربما صعبة في منظومة الإدارة المحلية لبلداتنا، تغيير التعامل مع الخطط الحكومية، ومواجهة بعض المسلمات، والتنازل عن بعض العادات والسلوكيات الفردية والمجتمعية. فالتحديات البيئية والمناخية مثلها مثل سائر التحديات المجتمعية لا يوجد حل سحري لعلاجها ولا لقاح يقضي عليها، ولكن لا شك أن لدينا ما يكفي من الطاقات والقدرات والتي إن تم توظيفها ومشاركتها بالشكل الصحيح سيكون بإمكاننا بناء أنظمة اجتماعية واقتصادية عادلة ومتينة تمكننا من التعامل بطريقة أفضل مع تحديات الفترة.
بعد أن زودتنا سنة 2020 وسنة 2021 بوجبات كافية من الدروس والإنذارات أن ما ينتظرنا أصعب، لنجعل من سنة 2022 سنة تستحق أن نذكرها في المستقبل كسنة بدأت فيها قواعد اللعبة تتغير وفيها بدأنا العمل من أجل استدامة مجتمعنا وربما نكتشف مستقبلا أنها كانت “سنة” الصحوة.
الكاتبة جميلة هردل واكيم وهي محامية ومديرة جمعية “مواطنون من أجل البيئة”.